pregnancy

التدفق الحر للأنباء .. والتضليل الإعلامي


التدفق الحر للأنباء .. والتضليل الإعلامي

  شغل مفهوم التدفق الحر للأنباء والمعلومات مساحات واسعة في ساحات النقاش العالمية خصوصاً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ، وقد أطلق بعض علماء الإعلام على هذه النقاشات : النقاشات العظيمة.
  جسدت النقاشات حول تدفق الأنباء والمعلومات ماهية الصراع المحتدم ما بين دول الجنوب والتي كانت تطمح في الاستقلال ودول الشمال التي كانت تسعى من خلال إعلامها للسيطرة الثقافية والاجتماعية على دول الجنوب.



  ظهر مفهوم التدفق الحر للأنباء والمعلومات لأول مرة في دستور اليونسكو في 16-نوفمبر-1945 حيث نصت المادة (1) منه على أن الوظيفة الأولى لليونسكو هي التوصل إلى اتفاق دولي حول زيادة التدفق الحر للأفكار بالكلمة والصورة The free flow of idea by word and image ، كما أن ميثاق حقوق الإنسان الصادر عام 1948 وفي المادة (19) منه نص على أن لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير والحق في اعتناق الآراء دون تدخل ، والبحث عن المعلومات والأفكار وتلقيها ، وإذاعتها باستخدام وسائل الإعلام دون التقيد بالحدود الجغرافية.
  لقد كان ظهور مبدأ التدفق الحر للأنباء بعد عام 1948 عائداً إلى بروز قوة الولايات المتحدة الأمريكية ، وزيادة دورها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية . ولأن الولايات المتحدة ودول أوروبا هي من صممت النظام الدولي عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية فقد اعتُبر مبدأ التدفق الحر للأنباء مبدأ محرماً Taboo  بالنسبة للسياسة الأمريكية.
  أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على فرض هذا المبدأ على دول الجنوب " الدول النامية " وعملت على تحصينه بالاتفاقيات الدولية ، والرد على أي تحد له ، وذلك لما لهذا المبدأ من أثر كبير وفائدة عظيمة للولايات المتحدة .
  في كتابه " الإعلام الدولي " قال الدكتور سليمان صالح أن مبدأ التدفق الحر للأنباء والمعلومات يسمح للشركات الأمريكية الاقتصادية والإعلامية بالتوسع تحت مظلة التدفق الإعلامي . وأن ظهور هذا المبدأ كان نتيجة لتزايد القوة الأمريكية وتعبيراً عنها.
  أصبحت القوة الإعلامية أساس أي قوة أخرى للدول ، وأداة لتحقيق التقدم على كافة المستويات  بينما تظل الدول الضعيفة إعلامياً أسيرة فقرها وديونها. وهذا ما دفع حركة عدم الانحياز والتي تمثل دول الجنوب أو الدول النامية إلى تبني قرار يدعو إلى زيادة التبادل الإخباري بين دول الحركة ، وقد طالبت ندوة لنفس الحركة عقدت في تونس عام 1976 بإعادة تنظيم وسائل الاتصال الدولي وإزالة الاستعمار الإعلامي وإقامة نظام إعلامي عالمي جديد.
  احتوت ندوة تونس على مجموعة من التوصيات قدمتها إلى مؤتمر وزراء دول عدم الانحياز في نيودلهي في يوليو 1976 وتضمنت مجموعة من النقاط كان من أبرزها أن تدفق الأنباء حول العالم يتميز بالاختلال ، وأن وسائل الإعلام والاتصال تتركز في عدد قليل من الدول ،وأن الاغلبية العظمى من الدول هي مجرد متلقٍّ سلبي للمعلومات التي يتم بثها من مراكز قليلة .
  إن احتكار مجموعة قليلة من دول العالم الأول لتدفق الأنباء والمعلومات يؤدي إلى جعل هذه القلة هي من تتحكم في كيفية بث المعلومات والأنباء وصياغتها وقولبتها في الإطار والسياق الذي يخدم هذه القلة من الدول ، مع إنكار حق البقية من سكان العالم الثالث أو النامي في أن يَعلموا ويُعلموا. ولظهور هذه الاحتكارات دور كبير في خلق الاختلال والتفاوت في تدفق المعلومات من الشمال إلى الجنوب.
  عبرت حركة عدم الانحياز عن تخوف بلدان الجنوب من زيادة هيمنة وسائل الإعلام في دول الشمال بزعامة الولايات المتحدة ، لذا فقد عملت الحركة على عقد مجموعة من المؤتمرات التي خصصتها لتناول موضوع حرية تدفق المعلومات والأنباء ، ودعت إلى إقامة نظام إعلامي جديد لأن هذا النظام الجديد سيكون المفتاح الرئيسي لتحقيق دول الجنوب استقلالها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد عملت الحركة على تحقيق أمرين هما : العمل على زيادة القدرات الإعلامية لدول العالم الثالث ، وبدء المفاوضات داخل الأمم المتحدة واليونسكو لتحسين أوضاع العالم النامي في مجال الاتصال .
  شنت الولايات المتحدة الأمريكية هجوماً شرساً على الدعوة لإنشاء نظام إعلامي عالمي جديد ، ووصفت الذين يدعون إلى النظام الإعلامي الدولي الجديد بالدكتاتورية ، وأن الهدف منه هو التحكم في الحقائق ومنع وصولها لشعوبهم . كما أن الولايات المتحدة تعاملت بعداء مع كل من يحاول المساس بمفهوم التدفق الحر للأنباء والمعلومات ، ورفضت المشاريع التي قدمتها حركة عدم الانحياز مثل التدفق الحر والمتوازن للأنباء والمعلومات ، فرفضت الولايات المتحدة مفهوم التوازن واعتبرته نوعاً من التلاعب وحجب المعلومات.
  يمكننا أن نفهم سبب الموقف العدائي للولايات المتحدة الأمريكية تجاه المحاولات الرامية إلى إنشاء وإيجاد نظام عالمي جديد عندما نرى أن الاقتصاد الأمريكي يقوم على قاعدة أساسية هي صناعة المعلومات والاتصال ، وأن تدفق المعلومات والاتصال هو مسألة شديدة الأهمية للمحافظة على الاقتصاد الأمريكي ، وتهيئة الفرص لتوسيع هذا الاقتصاد.
  سبب آخر لرفض الولايات المتحدة القطعي فكرة النظام الإعلامي العالمي الجديد تكمن في أن المعلومات والاتصال هو مصدر قوة عظمى للدولة وإن محاولة تغيير الواقع الراهن في مجال الاتصال والمعلومات هو بمثابة الحكم على قوة الولايات المتحدة بالانهيار.
  إن الاقتصاد الأمريكي يقوم على قاعدة أساسية هي صناعة المعلومات والاتصال ، والحفاظ على هذا التدفق هو شديد الأهمية للمحافظة على الاقتصاد الأمريكي .
  للمعرفة أثر بالغ في تشكل الثروة وتضخيمها على رأي هيبرماس ،لأجل ذلك قامت الولايات المتحدة الأمريكية وشركاتها الاقتصادية متعددة الجنسية بصنع أيديولوجية التدفق الحر للأنباء والمعلومات بحيث تتدفق المعلومات التي تحقق مصالح الشركات الكبرى الأمريكية عابرة للقارات وتضمن بذلك أن يكون العالم كله سوقاً لمنتجاتها . لذلك فإننا نستطيع القول أن العلاقة بين تركيب الإعلام الدولي والرأسمالية تنمو بشكل متميز وتزداد قوة.
  أدت المناقشة لمفهوم التدفق الحر للمعلومات والاتصال إلى بروز مفاهيم جديدة ، وحقوق جديدة للإنسان ، وهذه المفاهيم والحقوق تشكل إطاراً لمفاهيم ونظريات للمطالبة بإنشاء نظام إعلامي عالمي جديد.
  كان من أهم المفاهيم مفهوم الحق في الاتصال ، وهو حق أوسع بكثير من مفهوم التدفق الحر للأنباء والمعلومات ، وذلك أن حق الاتصال يشمل حق الأفراد والجماعات والشعوب أن يُعلموا ويَعلموا ، أي بمعنى أن يرسلوا الرسائل ويتلقوها ، وأن يشاركوا في العملية الاتصالية .
  استخدمت العديد من الدراسات الإعلامية الحديثة مصطلح التدفق الحر لنقص المعلومات والذي يعني أنه وبالرغم من أن العالم يغرف في طوفان معلوماتي إلا أنه وفي نفس الوقت يعاني من نقص المعلومات .
  إن الاتصال الذي أحدثته مؤسسات الإعلام الكبرى هو اتصال باتجاه واحد ، ويكون من دول الشمال باتجاه دول الجنوب ، وهذا يعني أن الحرية تتوفر فقط لهذا التدفق القادم من الشمال ولا تتوفر الحرية لأي معلومات تتدفق من الجنوب إلى الشمال .
  يرى هاملنك Hamelink أن هناك مشكلة مجاعة معلوماتية ، ولم يتم حلها حتى الآن ، وهي تشكل في حد ذاتها انتهاكاً واضحاً لحق أساسي من حقوق الإنسان ، وهو حقه في تلقي المعلومات وجمعها وتوزيعها ، وهذه المجاعة المعلوماتية هي من يحول دون إحداث التطور والتنمية في دول العالم الثالث.
  بالرغم من كل ما وفرته ثورة المعلومات والاتصالات ، وتطور تكنولوجيا الاتصال ، وعملية الربط بين الأقمار الصناعية والشبكات الكمبيوترية فإن ما ينشر عن العالم في وسائل الإعلام قليل جداً والأحداث التي تجري في العالم أكثر بكثير من قدرة كل وسائل الاتصال في العالم على تغطيتها. ولأن وسائل الإعلام لا تستطيع الإحاطة بكل ما يجري على الساحة العالمية فإنها تبدأ بعملية غربلة وانتقاء للأحداث التي يتم تغطيتها ، وهنا يحصل التجاهل والتهميش لكثير من الأحداث والقضايا ، ويتم نفي العديد من الشعوب والأمم من عالم تدفق الأنباء .
  إن عملية اختيار المعلومات وانتقائها تسمح للمعلومات المنتقاة بالمرور عبر بوابات الإعلام الدولي ، مما يحدث طوفان وفائض معلوماتي ، وفي نفس الوقت يشكل مجاعة معلوماتية ، إذ أن ما ينشر في وكالات الأنباء الدولية ووسائل الاتصال ما هو إلا صورة مختصرة ومسلية ، لا توفر معرفة حقيقية للناس تساعدهم على اتخاذ قرارات. ولتوضيح هذه الفكر سنقوم بتطبيقها على قناة CNN  الإخبارية الأمريكية في كيفية تعاطيها مع استحقاق أيلول. يقول أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت محمد أبو الرب في مقالته بعنوان (كيف تعاطى الإعلام الأمريكي مع استحقاق أيلول) أن وسائل الإعلام الأمريكية يعتمد في تعاطيه مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على جملة من الاستراتيجيات منها : أن الإعلام الأمريكي يغيب الخلفية التاريخية للأحداث عند عرضها ، إضافة إلى استخدام أسلوب التعميم مقابل التخصيص واستخدام تقنيات اشتغال الخطاب الإعلامي من حجب وإبراز ، وتسطيح وتعميق.
  فالإعلام الأمريكي قام ببث كميات هائلة من المعلومات عن استحقاق أيلول ولكنه وفي نفس الوقت خلق مجاعة معلوماتية.
  حيث أنه اختصر من المعلومات ما يتلاءم ومصلحة الوسيلة الإعلامية . وقامت ايضاً وسائل الإعلام الأمريكية بعملية انتقاء للمعلومات ، فسمحت للتي تتناسب ورؤيتها بالمرور عبر بوابات الإعلام ، والتي تنافت مع مصلحتها لم تلق لها بلاً.
  يظهر هنا دور التدفق الحر للأنباء والمعلومات في خل التضليل الإعلامي ، وممارسته على شعوب الدول النامية ، بل حتى على شعوبها ، فقناة فوكس الأمريكية عند تغطيتها للحرب على العراق قامت بتضليل الرأي العام الدولي والمحلي في الولايات المتحدة ، عندما قامت ببث الإشاعات والمعلومات المغلوطة عن الترسانة العراقية من الأسلحة ، وكان نتيجة ذلك دمار بلد كامل ، بكل ما يحتويه من معالم حضارية وثقافية.
  إذن فنقص المعلومات عن مواقف الأطراف الأخرى في الصراعات الدولية ، يؤدي إلى خلق صورة مشوهة لدى الجماهير وتضليلهم ودفعهم إلى اتخاذ مواقف تريدها القوة المسيطرة على النظام الإعلامي الدولي . ولتوضيح هذه الفكرة سنقوم بتطبيقها على الواقع العربي اليوم وتغطية قناة الجزيرة القطرية لما بات يعرف بالربيع العربي ، فبعد سقوط النظام الليبي بقيادة معمر القذافي حجبت الجزيرة تغطيتها للأحداث ما بعد سقوط النظام ووظفت كل طاقتها للترويج ضد النظام السوري الحالي . فهي بذلك ضللت الجمهور في أنها لم تنقل لهم الأنباء عما يجري الآن في ليبيا من قتال ومعارك دامية بين "الثوار" وعن أعداد القتلى الذين سقطوا جراء هذه المعارك. فالجزيرة ركزت على قضية بعينها في ليبيا والتي كانت تدعم أيديولوجيتها وسياسة بلدها وبعد انتفاء المصلحة من التغطية قامت بحجبها.
  وقد لوحظ في تغطية الجزيرة لما يحدث في سوريا انها اعتمدت على أشخاص غير خبراء أو نشطاء لا يتم الإشارة إلى عملهم وذلك كي يقدموا كعينة تمثل الشعب السوري أو تمثل الرأي العام فيه ، ولذلك فالجزيرة تستضيف في قناتها الشخص الذي يريدون بكلماته التي يريدون لتحقيق أهدافها المرسومة سلفاً.
  هناك سيطرة دولية على نشر الأنباء والمعلومات من قبل مجموعة قليلة من وكالات الأنباء حيث تنشر هذه الوكالات ما يقارب من 90% من معلومات العالم ، ولا توجد من ضمن هذه الوكالات أي وكالة عربية ، فكيف نتحدث عن دول عربية مستقلة سياسياً واقتصادياً وثقافياً دون امتلاكها للقوة الإعلامية ؟
  يؤدي عدم امتلاك الدول العربية للقوة الإعلامية إلى جعل هذه الدول تابعة للإعلام الغربي، وقد نلمس هذا جلياً في إعلامنا الفلسطيني ، حيث تعتمد وكالات الأنباء والصحف الفلسطينية على وكالات الأنباء العالمية بشكل كبير. وما يزيد الخطر تفاقماً هو اعتماد الإعلام الفلسطيني على وكالات الأنباء الدولية في تغطيتها لأحداث داخل فلسطين بل داخل مقر الرئاسة الفلسطينية!
  وباختصار فإن الوضع الدولي الحالي في مجال الإعلام والاتصال مبني على سيطرة القوى العظمى ، حيث تتمركز منابع المعلومات في مراكز إعلامية محددة ، مسهلة علي الدول العظمى نشر أي معلومة تريد ، فتخلق التضليل الإعلامي والذي عملت على تغطيته بمسمى التدفق الحر للأنباء والمعلومات ، وأصبح من الصعب على الدول النامية مواجهة هذا الاحتكار  والتضليل الإعلامي والذي زادت شدته مع تطور وسائل الاتصال ، وعصر العولمة.






مراجع للتوسع :
·        البياتي.ياس،الاتصال الدولي والعربي مجتمع المعلومات ومجتمع الورق:عمان،دار الشروق،الطبعة الأولى ،2006.
·        صالح.سليمان،الإعلام الدولي :الكويت،مكتبة الفلاح للنشر والتوزيع،الطبعة الأولى،2003.
·        أبو الرب.محمد،كيف تعاطى الإعلام الأمريكي مع استحقاق أيلول،مقالة.
·        Hachten.W.A ,The news prims (Amas :Iowa state university press 1999) P.164
·        الجمال.راسم،دراسات في الإعلام الدولي:الرياض،دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الأولى 1985.



شكرا لتعليقك